رفع العقوبات الأميركية عن سوريا- تحفيز للاستقرار ومصالح واشنطن وحلفائها

في خطوة تعكس تحولًا محوريًا في السياسة الخارجية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أواخر يونيو/حزيران من عام 2025 قرارًا تاريخيًا يقضي برفع العقوبات المفروضة على سوريا. وقد وصف ترامب هذا القرار بأنه "يدعم الأهداف الاستراتيجية للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية"، مشيدًا في الوقت ذاته بالحكومة السورية الجديدة، ومؤكدًا على التزام واشنطن الراسخ بدعم سوريا موحدة ومستقرة تنعم بالسلام مع نفسها ومع جيرانها.
هذا القرار الجريء يمثل تتويجًا لإعلان هام أطلقه الرئيس الأميركي من العاصمة السعودية الرياض في منتصف مايو/أيار المنصرم، حيث التقى بالرئيس السوري أحمد الشرع في لقاء تاريخي يرسم معالم الإستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه سوريا، التي تتحول بموجبها من الانتماء إلى المعسكر الشرقي، الذي لازمها خلال حقبة حكم حزب البعث، إلى الانخراط في المعسكر الغربي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية والذي يعيد رسم خريطة النفوذ في شرق البحر الأبيض المتوسط.
واشنطن تعزز مصالح شركائها
لم يعد مقبولًا لدى واشنطن أن تظل سوريا مساحة حيوية ونطاقًا نفوذًا لروسيا وإيران، وهما الدولتان المتحالفتان اللتان تسعيان لتقويض المصالح الغربية، واللتان تربطهما علاقات وثيقة مع الصين، المنافس الأكبر للولايات المتحدة على احتكار القطبية الأحادية التي تسعى واشنطن جاهدة للحفاظ عليها وقيادة العالم من خلالها.
لقد استغلت إيران على وجه الخصوص الساحة السورية كمنصة انطلاق لتهديد المصالح الأميركية ومصالح حلفائها الإقليميين في منطقة الشرق الأوسط. هؤلاء الحلفاء كان لهم الدور الحاسم في إقناع الإدارة الأميركية بإكمال دعمها للتغيير الجذري والتحول الكبير الذي شهدته سوريا، من خلال دعم استقرار المشهد السياسي والاقتصادي الجديد، وتسريع وتيرة رفع العقوبات، والانفتاح السياسي على الرئيس الشرع وحكومته.
فبدون رفع العقوبات، سيظل شبح عودة الفوضى يتربص بالمنطقة، مما يعيد معه التهديد المباشر لحلفاء الرئيس ترامب وأصدقائه. من هذا المنطلق، أطلق الرئيس الأميركي إعلانه التاريخي بشأن رفع العقوبات من الرياض، وعقد وزيرا الخارجية الأميركي والسوري اجتماعًا تنسيقيًا في أنقرة، مما يعكس بوضوح الدور المحوري الذي تلعبه هاتان العاصمتان وموقعهما في صياغة ملامح الشرق الأوسط الجديد.
محركات السياسة الخارجية للإدارة الأميركية
تبنى الرئيس ترامب وجزء كبير من إدارته خلال ولايته الرئاسية الأولى والثانية مبدأ "أميركا أولًا"، وهو مبدأ واقعي وقومي لا يولي اهتمامًا كبيرًا بتصدير الديمقراطية والمبادئ أو إجبار الدول الأخرى على الالتزام بها. بدلًا من ذلك، يركز هذا المبدأ على إبرام الصفقات التي تعود بأكبر قدر من المكاسب على أميركا وحلفائها، ويمثل نهاية للنسخة الراديكالية من مبدأ "الفوضى الخلاقة"، الذي يهدف إلى تفكيك الأنظمة وإعادة بناء المنطقة من خلال الاستثمار في الأزمات وإطالة أمدها.
ويتجلى هذا المبدأ الجديد للإدارة الأميركية بوضوح في موقف واشنطن وخطواتها المتخذة تجاه التغيير الذي طرأ على سوريا، حيث دعمت مساعي الحكومة الجديدة لإنهاء النزاع وتحقيق الاستقرار، ثم استتبعت ذلك برفع العقوبات استجابة لمصالح شركائها الإقليميين.
وقد صرح الرئيس الأميركي مرارًا وتكرارًا بأنه يستجيب لرفع العقوبات عن سوريا بشكل سريع بناءً على جهود الوساطة الإقليمية، مؤكدًا بصراحة على الأثر الإيجابي لذلك على دعم المصالح الأميركية في المنطقة، بالإضافة إلى دعم مصالح حلفاء واشنطن وأصدقائها على حساب منافسيها.
الاقتصاد والازدهار
تدرك الولايات المتحدة تمام الإدراك أن تحريك عجلة الاقتصاد في سوريا من خلال رفع العقوبات هو أقصر الطرق لتحقيق التنمية والرخاء والاستقرار، ليس فقط في سوريا، بل في المنطقة بأسرها، حيث سيلتقي النشاط الاقتصادي والازدهار في شبه الجزيرة العربية مع تركيا. وهذا لن يتحقق إلا من خلال استقرار سوريا وإدماجها الكامل في هذا الفضاء الاقتصادي والتنموي الحيوي المتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، والذي يدعم بقوة مصالح واشنطن في المنطقة.
"إعادة دمج سوريا في الاقتصاد الإقليمي" هو العنوان المشترك الذي تتفق عليه تركيا والمملكة العربية السعودية مع رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، وهو المدخل الرئيسي لتحقيق الاستقرار الإقليمي لحلفاء الولايات المتحدة، وبالتالي للمصالح الأميركية التي تسعى لتوسيع نطاق نفوذها الحيوي على حساب منافسيها في العالم.
إن إنعاش الاقتصاد السوري هو جزء لا يتجزأ من عملية ضمان الاستقرار الأمني في المنطقة. فمع رفع العقوبات، ستبدأ التدفقات الاستثمارية بفتح أبواب الفرص أمام آلاف الشباب في سوريا، بعيدًا عن أتون الحرب التي جندتهم وكانت سببًا رئيسيًا في استنزاف المنطقة. وستكون الفرص الاقتصادية والتنموية حافزًا قويًا لإنهاء الفوضى وأدواتها، مما يضع حدًا لأحلام إيران بالعودة إلى سوريا ولبنان.
بالإضافة إلى ما سيحققه إنعاش الاقتصاد من فرص استقرار وازدهار؛ سيشكل الاقتصاد السوري وموارده الحيوية، بعد رفع العقوبات، تكاملًا حيويًا مع اقتصادات المنطقة، وستكون سوريا امتدادًا طبيعيًا لمختلف القطاعات الاقتصادية والاستثمارية والتنموية مع تركيا ودول الخليج شمالًا وجنوبًا.
حوافز مقيدة بشروط
يأتي هذا القرار التنفيذي التاريخي اليوم بعد شهر ونصف من الإعلان عن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، كجزء من عملية تحفيز تقوم بها واشنطن لإنجاح تجربة الانتقال السياسي في سوريا.
لقد كانت إدارة الرئيس ترامب صريحة وشفافة في تحديد الضوابط والشروط التي تطالب بها من الحكومة الجديدة في سوريا. وكان الرئيس الشرع يدرك دائمًا أن نجاح مشروعه السياسي في سوريا يتطلب تفاعلًا إيجابيًا وبناءً مع الغرب بشكل عام، ومع الولايات المتحدة على وجه الخصوص.
تتقاطع بعض الشروط الأميركية مع مشروع الرئيس الشرع وأهدافه، ولا يوجد خلاف على سبيل المثال على ضرورة مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وإنهاء وجوده في المنطقة، الأمر الذي يساعد الرئيس ترامب على تنفيذ وعوده بسحب القوات الأميركية من سوريا، ويدعم تحقيق أهداف إدارته في العراق، وفي مقدمتها تفكيك الحشد الشعبي العراقي.
بينما توجد بعض الشروط الأميركية الأخرى التي يحتاج الرئيس الشرع فيها إلى مزيد من الوقت، أو أنه يسعى لمناقشتها مع الولايات المتحدة للوصول إلى تفاهمات مشتركة بشأنها، ولا سيما الموقف من إسرائيل الذي يحمل تعقيدات وتفاصيل كثيرة.
ومع ذلك كله، فإن الموقف الأميركي الداعم للحكومة السورية واضح وجلي، ويتجسد في الانفتاح السياسي والاعتراف ورفع العقوبات. وهذا الدعم، وإن كان مشروطًا، إلا أنه يحفز الرئيس الشرع وفريقه، ويدعم جهودهم في تحقيق الشروط والضوابط الأميركية.
في المقابل، لا تخفي الإدارة الأميركية أنها تراقب عن كثب، وأنها تختبر باستمرار أداء السلطة التنفيذية الذي يخضع للتقييم في كل خطوة تخطوها، وأن على السلطة في دمشق أن تعزز الحكم الشامل وأن تبتعد عن الإقصاء والتهميش، وأن تنهي مظاهر التطرف وتحارب الجماعات المتطرفة، فضلًا عن إظهار موقف عملي وواضح من القضايا الحساسة، وفي مقدمتها مسألة المقاتلين الأجانب في سوريا.
تؤكد الإدارة الأميركية ما أكدته دول الاتحاد الأوروبي من قبل، وهو أن رفع العقوبات يخضع للتقييم المستمر، وأن العقوبات التي يتم رفعها من الممكن أن يُعاد فرضها مجددًا.
يُعتقد على نطاق واسع أن رفع العقوبات بشكل سريع عن سوريا هو بمثابة تحفيز وتشجيع ودعم، ولكنه في الوقت نفسه يضع الكرة في ملعب الحكومة السورية. فبكلمات بسيطة، يقول لسان حال الغرب الأوروبي والأميركي: لقد أُعطيت الحكومة السورية الفرصة الكاملة لإنجاح عملية الانتقال السياسي في البلاد، ولا يمكنها أن تختلق أي أعذار إذا ما أخفقت في أي خطوة تخطوها.
وبناءً على ذلك، فإن رفع العقوبات سيكون فرصة ومسؤولية في آن واحد، وسيفتح الأبواب ويفرض الاستحقاقات. ولن تكون الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون هم الداعمون والمراقبون والمُسائِلون الوحيدون، بل إن الشركاء الإقليميين سيكون لهم دور محوري في ذلك، وفي مقدمتهم تركيا والمملكة العربية السعودية.